هو راشد بن إسحاق بن راشد الكاتب. أغلب الظنّ أنه من أصل غير عربي. ولد في الكوفة، وشهد فتنة الأمين والمأمون في بغداد، كما شهد نكبة الفضل بن مروان عام 221 هـ. كان كاتب عبدالله بن الطاهر في مصر. توفي عام 240 هـ في طريقه إلى الحج. له ديوان ضاع أكثر من نصفه، حقّقه محمد حسين الأعرجي، والطريف في هذا الديوان أن صاحبه وقف معظمه على رثاء ذَكَره بعدما أُصيب بالعنّة، وعُرفت أشعاره عند العرب بـ" أيريّات أبي حكيمة".
كان أبو حكيمة ذا مكانة مميّزة لدى الخلفاء، وفي مجالس الأمراء، وكان شعره محبّباً إلى مسامعهم، حتى ضاق به صدر أبي تمّام لذيوع صيته. فلم يكن الخليفة يلاقي حرجاً أو إثماً في سماع شعره بمجالسه الخاصة لما يشيعه من ظرف وحبور.
بالطبع ليس "سهلاً" على رجل عاش في العصر العباسي، أن يصاب بضعف جنسي يجعل مَتاعه لا ينتصب، في زمن عبق بالجواري ومجالس اللهو والخمر وبحرّية أجازت للرجل ممارسة كلّ شيء، خصوصاً إذا كان هذا الرجل ممن أولع بالنساء وبالخمر... وقد انتهى الأمر بأبي حكيمة إلى الطلب من أمير المؤمنين أن يمنحه جاريةً تحيي ذَكَره:
"يكفّن الناس موتاهم إذا هلكوا
وبين رِجلَيَّ مَيْتٌ ما له كفنُ
هذا الخليفة فاستوهبه جاريةً
حوراء تضحك في أعطافها الفتنُ
لعلّ أيرك يحيى إن ألمّ به
وجه مليحٌ، وخلق ناعم حسنُ".
هذا الخليفة هو المأمون نفسه الذي عيّن قاضياً لوطياً (يحيى بن أكثم)، وفيه قال أبو حكيمة شعراً ذاع صيته:
"وكنّا نرجّي أن نرى العدل ظاهراً
فأعقَبَنا بعد الرجاء قنوطُ
متى تصلح الدنيا ويصلح أهلها
وقاضي قضاة المسلمين يلوطُ؟".
ومن نافل القول إن أبا حكيمة لم يكن بعيداً عن جو الغلمان إلا أنه كان شديد الميل نحو النساء، وما رثاؤه لذكره إلا من باب التأسّف والتفجّع على "عدّة الجنس" التي خذلته في كبره. لم يبكِ أبو حكيمة على الأطلال كما تفعل العرب عادة، بل احتقر هذه العادة كشريكه أبي نؤاس، ترك أطلال الحجر ليرثي أطلال الذَّكَر:
"لا يوحشنّك فقدُ الحيّ إن رحلوا
دعْهم لكلّ فقيدٍ منهمُ بَدَلُ
ولا تقف بين أطلالٍ تسائلها
فلن يردّ جواب السائل الطللُ
ولتبكِ عينك أيراً لا حراك به
لا اللمس يُنشطه يوماً ولا القُبَلُ".
ومن "غيره" يستحقّ الرثاء، بعد الذلّ الذي سبّبه كسله وقعوده:
"أذللتني بعد عزٍّ
ويلي عليك وعَوْلي
قد كنتَ حربة نيكٍ
فصرت ميزاب بولِ
جلَّت عيوبُك عندي
عن كلّ وصفٍ وقولِ".
ويقول أيضاً:
"أبكي على لهوي ولذّاتي
بعبرة تشفي حراراتي
أبكي على أيرٍ ضعيف القوى
يخونني في وقت حاجاتي
ينام عما يستلذّ الفتى
ونومه إحدى المصيباتِ".
لم يستطع أبو حكيمة تحمّل خسارة "رجولته"، فعمد إلى المجاهرة بما أصابه، علّ هذا الإشهار يخفّف عن نفسه ويروّح عن جميع المبتلين بهذه الحال، مستذكراً زمن "معاركه" و"غزواته" المشهورة بين النساء:
"ألا أيها الأير الذي ليس ينفعُ
أعندك في تحريك رأسك مطمعُ
إلى كم وقد نُبّهتَ من سكرة الكرى
توسّدُ إحدى بيضتيك وتهجعُ
عدمتكَ من أيرٍ قليل غناؤه
خلت منه أسباب المنافع أجمعُ
تغيّرتَ حتى ما تُرى فيك شيمةٌ
من الأير إلا أنّ رأسك أصلعُ".
لم يكن رثاء أبي حكيمة رثاء حزيناً فقط، بل حمل شعره اللوم والتقريع، مع مسحة الصابر المضطرّ في صبره:
"ألا أيها الأير الذي قلّ نفعه
أما فيك خيرٌ كم تذمّ وكم تُشكى
رأيتك في حال الفسوق مشمِّراً
ففيمَ هداك الله لي تكتم النسكا
بكيتكَ لما لم تقم عند حاجة
وحُقَّ لأيرٍ لا يقوم بأن يُبكى".
وهكذا ظلّ الحنين يداعب مخيّلة شاعرنا، يوصله بالأيام الخوالي، ليقيم موازنةً بين حاضره وماضيه، من دون أن ينسى تقريع عضوه المستكين:
"تنّبه أيها الأير المدلّى
لشأنك إنّ طول النوم عارُ
توقَّرُ عن ملاعبة الغواني
وشرُّ خلائق الأير الوقارُ
تقلّصُ إن أصابك برد ليلٍ
وتسترخي إذا حميَ النهارُ
وفي ما بين ذلك أنت ملقى
على الخصيين ليس بكَ انتشارُ
تولّي الغانيات قفا لئيمٍ
تليق به الهزيمة والفرارُ
تحنّ على البعاد إلى سليمى
وتهجرها إذا قَرُب المزارُ
وتُعرضُ حين تلقي الثوب عنها
وتسجد كلما خُلع الإزارُ".
غلّف أبو حكيمة رثاءه بنكهة الطرافة والتفكهة، فكأنه يريد أن يطبّق القول المأثور "شرّ البلية ما يضحك":
"يا ربّ صائحةٍ بالويل حين رأت
ما بين فخذيّ من خزيٍ ومن عِبرِ
أيرٌ تعقّفَ واسترخت مفاصله
مثل العجوز حناها شدّة الكبرِ
كأنه حالفٌ بالله مجتهدٌ
ألا يقوم على أنثى ولا ذكرِ".
والحقّ أن بناء صورة المتاع في عجزه لدى أبي حكيمة مما يأسر بجماله وابتكاره:
"ينام على كفّ الفتاة وتارةً
له حركاتٌ مما تُحسُّ بها الكفُّ
كما يرفع الفرخُ ابن يومَيْن رأسَه
إلى أبويه ثمّ يدركه الضعفُ".
كذلك فلنقرأ هذه الرسم الكاريكاتوري الذي يرسمه لنفسه وقد غدا من دونه:
تقول سُليمى ما لأيركَ لا يُرى
أطار به من فوق خُصييك طائرُ
فقلت لها: أيري مقيم مكانه
ولكنه رخو المفاصل ضامرُ
فهل أبصرت عيناكِ قبلي وقبله
فتى غاب عنه أيره وهو حاضرُ؟!".